نون- خلال الأيام القليلة الماضية، شهدت إسرائيل ما لم تشهده في تاريخها حسب ما نقلته وسائل إعلام إسرائيلية عن مسؤولين، رشقات صاروخية لأيام متتالية ضجّت بها تل أبيب وحيفا ومدن مجاورة، وهرع معها الإسرائيليون للملاجئ، وما زالوا.
ما لم تشهده إسرائيل أيضا هو حجم الدمار الذي رشح من هواتف الإسرائيليين على منصات التواصل، رغم الرقابة الإسرائيلية، ومحاولة حكومة الاحتلال إدارة المشهد الإعلامي بصيغة لا تُظهر الآثار الحقيقية للضرر الذي طال البشر والحجر.
صواريخ باليستية وطائرات مسيرة تُحلّق تجاه إسرائيل في ضربات متعددة، مع وعيد إيراني بالمزيد، في سياق رد طهران على بدء إسرائيل هجماتها المباغتة على إيران، والذي استهدفت به عددا من المنشآت النووية والعسكرية، إضافة لاغتيال قادة عسكريين وعلماء نوويين.
أمر لافت في الاستهدافات الإيرانية أن معظمها كان في الليل، عدا بعض الضربات مثل ضربة عصر أمس الأحد، فكانت نهارا.
صحيح أن إطلاق الصواريخ الباليستية في الليل أو النهار أمر ممكن ووارد، لكن الإطلاق الليلي يوفر العديد من المزايا التكتيكية والإستراتيجية، خاصة في الحروب الحديثة.
ثمن التمويه
إحدى المزايا الرئيسية للقصف الليلي أن أقمار الخصم الصناعية وطائراته المسيرة ذات الوظائف التجسسية تفقد فعاليتها بشكل جزئي، بسبب نقص الضوء المرئي.
إذ تقوم الأقمار الصناعية برصد الصواريخ الباليستية بطرق عدة، أولها التصوير المباشر، وثانيها رصد الأثر الحراري لمحركاتها، ثم ترسل بيانات الموقع والسرعة بشكل لحظي إلى مراكز القيادة، التي تستخدم هذه البيانات لتحديد الهدف المتوقع للصاروخ وموعد سقوطه.
وعادة ما تمر أقمار الاستطلاع في أوقات معروفة، غالبا ما تكون في النهار لمسح المنطقة المستهدفة، لذلك يكون إطلاق الصواريخ في المساء وسيلة لتجنب رصد عمليات الإطلاق، إذ تتعطل قدرة الأقمار الصناعية البصرية التي تحتاج إلى ضوء الشمس لرؤية معالم الأرض من الرصد وجمع المعلومات، فهذه الأقمار تستخدم كاميرات ضوئية مثل تلك الموجودة في هواتفنا، لكن مع دقة أعلى بفارق كبير.
صحيح أن التصوير الحراري، عبر رصد الأشعة تحت الحمراء الصادرة من جسم ساخن، قد أفقد الضربات الليلية ميزة التستّر، ومن ثم أصبح الليل يتساوى مع النهار في بعض أنواع المعارك، إلا أنه يمكن تضليل المستشعرات الحرارية بسهولة أكبر ليلا باستخدام إجراءات مضادة مناسبة (مثل الطعوم الحرارية أو التمويه).
حيث تطلق بعض أنواع الصواريخ الباليستية ما يُعرف بالطعوم الحرارية باعتبارها إشارات وهمية وزائفة تُمرر بجانب الرؤوس الحربية، بهدف تضليل الأقمار الصناعية من رصد الصواريخ بدقة، سواء من حيث مكان انطلاقها، أو من حيث مسارها.
وعلى إثر هذا التضليل يصبح التمييز البصري ليلا بين الأهداف الحقيقية والزائفة أكثر صعوبة، كما أن هذه الطعوم الحرارية تشتت منظومات البحث الحراري، وبالتالي ترفع احتمالات إهدار الصواريخ الاعتراضية بالتوجه ناحية أهداف زائفة.
كما أن الهجمات الجوية المتزامنة التي تستخدم صواريخ كروز أو المسيرات التي تحلّق على ارتفاع منخفض ليلا، بالتوازي مع هجمات الصواريخ التي تستخدم الطعوم الحرارية، قد ترهق قدرة مشغّلي الرادار على الإدراك اللحظي لما يجري، في ظل غياب الرؤية البصرية الدقيقة.
إطلاق متخفٍّ
رغم ما سبق، فذلك ليس الجانب الأهم في اختيار الليل لتسديد الرمي، فهناك جانب شديد الأهمية يتصل بعملية الإطلاق نفسها، حيث إن العديد من الصواريخ الباليستية تنطلق من منصات متحركة، ومن ثم فإن التحرك نحو منطقة الإطلاق وما يليها من إعداد لعملية تصويب الصواريخ، ثم إعادة التمركز التي تلي ذلك في جنح الظلام، يقللان بشكل كبير خطر رصد منصة الإطلاق أو استهدافها أو مهاجمتها.
يصبح ذلك مهما بشكل خاص إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الأخطار المحدقة بإطلاق هذه الصواريخ في وضح النهار، إذ تزيد إمكانية رصد التحركات الأرضية، وتزيد أيضا احتمالية رصد وميض ودخان إطلاق الصواريخ الباليستية بسهولة أكبر، ومن ثم تتزايد احتمالية استهداف منصة الإطلاق قبل حتى أن يُطلق الصاروخ.
يؤكد ما سبق أيضا دافعا إستراتيجيا رئيسيا، وهو أن عمليات الإطلاق الليلية تزيد احتمالات صمود بطاريات الصواريخ والمنصات المعدة للإطلاق، ومن ثم إمكانية استخدامها مجددا.
عوامل بشرية
هناك أيضا عوامل بشرية في هذا السياق، حيث يرجّح أن يكون مشغّلو الدفاع الجوي والقادة وفنيو الرادار والجنود بشكل عام أكثر عرضة للإرهاق أو النوم خلال ساعات الليل.
ويعوّل الطرف المُهاجم في هذه الحالة على أن العوامل البشرية الخاصة بالطرف المُدافع، قد تؤدي إلى إبطاء عملية اتخاذ القرار الأكثر ملاءمة دفاعيا، وهو ما يزيد احتمالية حدوث أخطاء في عمليات الرصد والاعتراض.
شاهدنا ذلك مثلا في الحرب الروسية الأوكرانية، حيث كان الروس يستخدمون ضربات المسيرات في الليل التالي لهجوم نهاري، بهدف استغلال الإرهاق الشديد الذي تعرض له الجنود في كل المواقع نهارا، من أجل تحقيق ضربات قوية.
إضافة لما سبق، تجبر الهجمات المتكررة بالصواريخ والطائرات المسيّرة الدفاعات على العمل بشكل دائم، مما يؤدي إلى احتمالية تراجع جاهزية منظومات الدفاع الجوي، وقد تكون إيران قد اتبعت طريقة شبيهة حينما أتبعت الضربات الليلية بأخرى نهارية، ثم تلتها ضربات ليلية في اليوم نفسه، وهو يوم أمس الموافق 15 يونيو/حزيران الحالي.
صحيح أن أنظمة الدفاع الجوي، مثل القبة الحديدية وباتريوت وإس-400، لا تزال تعمل ليلا بكفاءة حيث تعتمد على الرادار والتتبع الحاسوبي، وهي تقنيات لا يعوقها الظلام، لكن هذه الكفاءة التقنية قد لا تنعكس بالدرجة ذاتها على كفاءة المشغّلين أنفسهم، وهذه مساحة عسكرية حساسة تتطلب يقظة عالية، فشرود دقيقة في مثل هذه الأوضاع الخطيرة والدقيقة قد يعني دمارا واسعا.